لعل النكبة التي تعرض الفلسطينيون لها عام 1948م، بتهجير أغلبهم من مدنهم التي استولت عليها إسرائيل ليست الأولى. فالمُدقِّق فيما جرى وقت الحملة الصليبية الأولى التي وصلت بلاد الشام عام (490هـ - 1097م)، واستقرت نسبيًا وكوّنت دولة عام (494هـ - 1101م)، يجد أن نكبة كبيرة قد وقعت في فلسطين، بجانب عدد من المدن الشامية وقتها.
تحت تأثير هذه الحملة الصليبية تحولت مدن كثيرة إلى فراغ يسكنه أشباح بعد فرار الأهالي، وحاول الصليبيون إجراء مشروع توطين مسيحي بها، بعد أن كونوا دولة صليبية عُرفت بِاسم مملكة بيت المقدس، بحسب دراسة سعداء بشير علي العنزي «الحملة الصليبية الأولى وهجرات السكان في بلاد الشام».
لكن الفارق الأبرز بين نكبة 1101 ونكبة 1948، هو أن الأولى تبنت مشروعًا استيطانيًا مسيحيًا، أما الثانية فتبنت مشروعًا استيطانيًا يهوديًا.
بالإضافة إلى أن اليهود خلال الحملة الصليبية الأولى كانوا مضطهدين مثل المسلمين لصالح المسيحيين، على عكس النكبة الثانية التي عانى المسيحيون خلالها الاضطهاد مثل المسلمين لصالح اليهود.
ما ملامح تهجير المسلمين والأقلية اليهودية من فلسطين خلال الحملة الصليبية الأولى؟ وما ملامح مشروع التوطين المسيحي الذي تبناه الصليبيون، وانتهى على يد صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين عام (583هـ - 1187م)؟ هذا ما نتناوله في ما يلي.
الحملة الصليبية التي جاءت من بلاد الفرنجة غربي أوروبا سلكت طريقًا بريًا نحو بيت المقدس، إذ مرت من داخل الأراضي الأوروبية الشرقية، حتى وصلت أراضي الدولة السلجوقية المسلمة (تركيا تقريبًا حاليًا)، وبعدها دخلت بلاد الشام قاصدة بيت المقدس، بحسب ما وثق المؤرخ المرافق للحملة وليم الصوري في كتابه «الحروب الصليبية».
عندما اقتربت جيوش الصليبيين من الشام، وهم في طريقهم إلى أنطاكية (تتبع تركيا الآن)، خاف أهلها لما سمعوه عن قوتهم، وعن المذابح التي ارتكبوها في الأراضي السلجوقية، فهرب عدد منهم من المدينة، بحسب ما وثق عدد من المؤرخين منهم الصوري نفسه وابن القلانسي في «ذيل تاريخ دمشق». وكانت أنطاكية قد استقبلت عددًا من مدن الأناضول وحكوا للأهالي عن الفظائع التي واجهوها في بلادهم.
لكن أغلب الأهالي لم يهاجروا، وظلوا صامدين تحت وطأة الحصار نحو تسعة أشهر، حتى وقعت المدينة في أيدي الصليبيين، وارتكبوا مذبحة بها. حتى من نجى من الأهالي الذين كانوا قد هاجروا قبيل حصار أنطاكية طاردهم الصليبيون في الطريق وقتلوا أغلبهم بمعاونة الأرمن بحسب كتاب «أعمال الفرنجة» لما يعرف بالمؤرخ الصليبي المجهول.
الأرمن كانوا من رعايا الدولة الإسلامية، ولكنهم لم يعتنقوا الإسلام، وكثيرًا ما حدثت بينهم وبين الولاة المسلمين نزاعات.
انتشر خبر سقوط أنطاكية وساد الذعر بين سكان الشام (ما يعرف اليوم بدول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)، وبدأت المدن المجاورة لأنطاكية تشهد نزوحًا جماعيًا لسكانها، ناحية البلاد الأبعد عن طريق الصليبيين، بحسب ما يتفق المؤرخون.
اتجه الصليبيون إلى معرة النعمان والبارة، وأحدثوا فيهما مذبحة كالتي ارتكبوها في أنطاكية، ولكن قبل هذه المذبحة كان كثيرون قد هاجروا منهما، بحسب ما ذكر ابن العديم في «بغية الطلب في تاريخ حلب».
واصل الصليبيون زحفهم نحو بيت المقدس، وطوال الطريق كانت المجازر ترتكب بين سكان المدن الإسلامية، وكان الناس يهاجرون من أراضيهم، فكان الصليبيون يدخلون المدينة فيجدون أطعمة وبساتين وبضائع وحياة كاملة ولكن بلا بشر، بحسب وصف المؤرخ الصليبي المرافق للحملة ريموند آجيل Raymond d’Agilies في كتابه «تاريخ الفرنج غزاة بيت المقدس».
سلك الصليبيون طريقًا داخليًا نحو القدس، ولم يلتزموا بالسير بمحاذاة ساحل البحر الأبيض المتوسط، وذلك اختصارًا للوقت لأن أورشليم (القدس) هي هدفهم، حتى ولو ظلت أغلب مدن الساحل بقلاعها وتحصيناتها تحت سيطرة الجيوش الإسلامية، بحسب سعداء بشير علي العنزي.
وفي يونيو 1099م وصل الجيش الصليبي إلى مدينة الرملة فوجدوها خالية من السكان الذين هربوا وتركوا مخازنهم وبساتينهم وكل حياتهم خوفًا من مجزرة تلحق بهم، واتجهوا إلى عسقلان، بحسب وليم الصوري.
وكانت عسقلان تفوق الرملة في تحصيناتها والحامية العسكرية التي عليها، وأسهم ذلك في عدم سقوطها، بل ظلت تستقبل اللاجئين من المدن الأخرى لما يقرب من قرن من الزمان، طيلة محاولات الصليبيين التوسع في بلاد الشام وضم مدن جديدة لمملكتهم، بحسب عدد من المؤرخين، منهم ريموند آجيل وابن القلانسي.
في القدس كان الرعب يزداد مع تقدم الصليبيين، وكانت أعداد كبيرة من المهجّرين قد لجأوا إليها هربًا من الصليبيين، وحكوا لأهلها عما سمعوه وشاهدوه من فظائع.
أدرك النائب الفاطمي (الوالي) افتخار الدولة، أنه لا محالة سيواجه الصليبيين، فبدأ في اتخاذ عدد من الاحتياطات اليائسة: سمم آبار المياه التي سيضطر الصليبيون إلى الشرب منها وهم في طريقهم للقدس، وأخفى المواشي، كما هجّر المسيحيين المقدسيين لعدم ثقته بهم، خوفًا من تعاونهم مع الصليبيين كما فعل الأرمن في شمال الشام، بحسب ما يروي عدد من المؤرخين منهم آجيل، وابن الأثير في «الكامل».
كان السريان اليعاقبة (طائفة مسيحية) بقيادة أسقفهم الأعظم سيريل Cyrille قد هاجروا إلى مصر من تلقاء أنفسهم، وكانت مصر عاصمة الدولة الفاطمية التي تحكم القدس.
وبعد حصار دام أكثر من أربعين يومًا اقتحم الصليبيون القدس وارتكبوا مجزرة ضخمة، قتلوا فيها الآلاف.
اعتصم افتخار الدولة ونحو 500 فرد معه في المسجد الأقصى، وظلوا يدافعون عنه لمدة ثلاثة أيام، إلى أن أعطاهم الصليبيون الأمان وسمحوا لهم بالخروج والهجرة إلى عسقلان، بحسب ابن الأثير. فخرجوا واتجهوا إلى هناك، واعتبر بعض المؤرخين أن هذه المجموعة هي فقط التي نجت من المذبحة، إلا أن هناك روايات أخرى تؤكد أن أعدادًا أخرى من سكان القدس نجحت في النجاة وهاجرت إلى دمشق ومدن العراق.
المهجرون من القدس لم يكونوا مسلمين فقط، بل كان منهم يهود، حيث أرسل لهم يهود عسقلان ينصحونهم بمغادرة بيت المقدس، ومن بقي منهم في القدس قتِل أو أجبِر على اعتناق المسيحية، بحسب ما يوضح المؤرخ اليهودي يوشع براور في «عالم الصليبيين».
من المدن التي هاجر أهلها بالكامل قبل القدس كانت مدينة يافا؛ ففي أثناء حصار الجيش الصليبي للقدس، وصلت سفينتا إمداد إلى يافا، محملة بالمؤن والعتاد والجنود الذين صُدِموا حين وجدوا المدينة خالية تمامًا من السكان.
وظلت يافا على حالها بعد ذلك بسنوات، حيث يذكر الراهب الروسي دانيال، أنه حين مر عليها عام 1107م كانت خالية أيضًا من السكان، بحسب ما تنقل سعداء بشير العلي العنزي عن دانيال الراهب في وصفه «الأرض المقدسة في فلسطين».
بعد استيلاء الصليبيين على القدس انتخبوا الدوق جودفري ملكًا عليها، وأعلنوا تأسيس مملكة أورشليم أو بيت المقدس، واتفقوا على ضم مزيد من المدن للمملكة بعد تهجير سكانها.
كانت أول المدن التي استولوا عليها وهجّروا سكانها هي مدينة الخليل، والقرى التابعة لها، فهرب الأهالي متفرقين إلى مصر ودمشق والعراق وذلك عام 492هـ - 1099م، بحسب ما وثق علي أحمد السيد في «الخليل والحرم الإبراهيمي عصر الحروب الصليبية».
بعد الخليل سقط إقليم الجليل وعاصمته طبرية التي سقطت وهاجر أهلها إلى دمشق، وبعدها سقطت الناصرة وجبل الطور وبيسان، وهاجر أهالي تلك المدن من المسلمين واليهود إلى الأقاليم الإسلامية المجاورة وبقي المسيحيون فقط، بحسب وليم الصوري.
بعد ذلك سقطت حيفا، وكان اليهود من سكانها أكثر من المسلمين، ففروا منها جميعًا إلى قيسارية وعكا. بحسب سعداء بشير علي العنزي.
بعدها حاصروا عكا لمدة عشرين يومًا، برًا وبحرًا، حتى اضطر أهلها واللاجئون إليها إلى عرض تسليم المدينة للصليبيين، فقبلوا بشروط، أهمها أن من أراد البقاء في المدينة سيدفع إتاوة مقابل ذلك، وإلا فليغادر المدينة، فخرج الوالي الفاطمي ومعه حشد من الأهالي إلى دمشق، ومنها إلى مصر.
لم يلتزم الصليبيون بعهدهم، وانقضوا على عدد من المهاجرين وقتلوهم وهم في الطريق، بحسب ابن الأثير.
مات جودفري ونصب بلدوين الأول ملكًا بدلًا منه، وواجهته مشكلة وهي أن المدن التي احتلها، لا سيما القدس، صارت شبه فارغة من السكان.
هذه القلة السكانية نتجت عن تهجير سكانها أو قتلهم، ولم يبقَ بها إلا المسيحيون من سكانها الأصليين أو المسيحيين من أفراد الجيش الصليبي، أو بعض ممن أعلنوا تنصرهم من اليهود، بل إن كثيرًا من الجنود الصليبيين غادر عائدًا إلى بلاده بعد استقرار الأمور لصالحهم. حتى قال المؤرخ الصليبي وليم الصوري: «إن مجموع من بقي في القدس من الناس كان أقل من أن يشغل شارعًا واحدًا من شوارعها».
المشكلة السكانية أنتجت أزمة اقتصادية ومعيشية في مدن وأرياف مملكة بيت المقدس، مع عدم وجود حرفيين وفلاحين وتجار، بخاصة وأن الصليبيين كانوا مجرد محاربين لا يجيدون شيئًا من ذلك، وبخاصة الزراعة.
اضطر بلدوين إلى تغيير سياسة التهجير مع المدن التي سقطت لاحقًا مثل صيدا، التي لم يجبر أهلها على الهجرة، وبخاصة المزارعون منهم. ثم بدأ يكافح الهجرة العكسية من الصليبيين الذين يعودون إلى بلادهم ويعمل على استقطاب هجرات جديدة، واتخذ عددًا من الإجراءات في سبيل ذلك، وثقها وليم الصوري. فقرر تمليك كل من يقيم في بيت من بيوت مملكته (المنزل الذي يقطنه) إذا مكث فيه أكثر من عام، واستقطاب مهاجرين جدد، ولكن هذه الإجراءات لم تؤتِ ثمارها، فكان البحث عن بديل للمسيحيين الغربيين.
يقول وليم الصوري: «أغرى بلدوين سكان وادي موسى شرقي الأردن من المسيحيين الشرقيين للسكن في القدس، هم وأولادهم ونساؤهم وماشيتهم وكل ما يلزم حياتهم، وخصص لهم حيًا كاملًا بالقدس عرف بمحلة الشارقة، وبدأ في تمليكهم أراضي ومنازل مقابل قبولهم بالمعيشة في مملكته».
وتغيرت حياة كثير من هؤلاء بعد السكن في القدس، فقد كانوا مزارعين ريفيين، وعاشوا حياة المدينة في القدس، وبدأوا يتزاوجون مع الصليبيين الأوروبيين، فنتج عن ذلك جيل جديد من السكان، لقبوا بالبولان. كما قرر بلدوين أن يعيد للسريان الذين كانوا هاجروا إلى مصر بيوتهم وأملاكهم، إذا ما وافقوا على العودة إلى القدس.
في المقابل كان هناك اكتظاظًا بالسكان في البلاد التي استقبلت المهاجرين العرب، وبخاصة المدن الشامية التي لم تقع في أيدي الصليبيين، وربما كانت أهمها المدن السورية وعلى رأسها دمشق، وكذلك عسقلان الفلسطينية، بحسب ما يحكي ابن طولون في «القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية».
ويحكي ابن طولون أن ساحات وشوارع وأزقة دمشق ضاقت مساحتها لكثرة المباني التي بنيت لاستيعاب المهجرين، وتلتها في هذا التكدس عسقلان.
عانى المُهَجَّرون ضيق الحياة والفقر، بعد أن صاروا أغرابًا في مدن لا يملكون بها شيئًا من مقومات الحياة، فقد خرجوا من بلادهم وتركوا كل ما لهم فيها.
هؤلاء المهجرون حملوا مشاعر غضب وطاقة انتقام كبيرة ضد الصليبيين، أدت إلى إحياء روح الجهاد في الأماكن التي هجروا إليها، وأثروا بمشاعرهم على حياة كل أهالي هذه المدن. وقامت على أكتافهم حرب استنزاف للصليبيين طيلة وجودهم في الأراضي المحتلة، حتى إن الروسي سايولف الذي زار المنطقة عام 1102 ومكث بها لمدة عام أو أكثر قال إن الطريق بين يافا وبيت المقدس كان ساحة دائمة لحرب العصابات ضد الصليبيين، بحسب «وصف رحلة الحاج سايولف لبيت المقدس» (ترجمة سعيد عبد الله البيشاوي).
حذر سايولف من السير في ذاك الطريق، حيث تكثر الكمائن التي ينصبها الفدائيون والمقاومون العرب للصليبيين على طول الطريق، انطلاقًا من الأراضي المصرية والسورية. وأوضح أنهم كانوا يختبئون في الجبال والكهوف وينتظرون الوقت المناسب للهجوم على أي قوة أو أفراد صليبيين يمرون. ومن هؤلاء قادة بالدولة الفاطمية، مثل والي عكا الفاطمي الذي هُجِّر وقاد أعمالًا عسكرية وأسر خلال إحداها ولم يطلق سراحه إلا بعد دفع فدية كبيرة، بحسب ابن الأثير.
وظلت حرب الاستنزاف مستمرة بشكل غير منتظم، تقوم بها جماعات فدائية متفرقة، حتى جاءت المعركة الكبرى الفاصلة في حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، التي سحقت الصليبيين وبدأت المدن الفلسطينية والشامية تتحرر واحدة تلو الأخرى.
# تاريخ # تاريخ المسلمين # الحملة الصليبية الأولى # النكبة # بيت المقدس